المعلمون في اليمن.. رسل المعرفة غير المصدقين!

الفانوس - تقرير خاص

منذ اندلاع الحرب اليمنية مطلع العام ٢٠١٥م انهارت العملية التعليمية برمتها، ومعها ضاع جيل بأكمله خلف أسوار المدارس، وفقد الطلاب الرؤية بشكل كامل نحو المستقبل، وفي تجلي يوازي كارثية ضياع النشء والشباب في اليمن يظهر المعلم من الناحية المقابلة للكارثة بثياب الحزن، يمزقه الوجع وسوء الحال، الأمر الذي أضطره إلى ترك هندامه الوقور ومهنته المقدسة، والبحث خارج المجال عن ما يلبي متطلبات عائلته، وتلك صورة تمزق نياط القلوب الوفية للمعلمين، والمقدرة لدورهم ورسالتهم السامية في المجتمع.

ومع أن قضية المعلم اليمني هي أولوية الأولويات أو هكذا يجب أن تكون إلا أن كل أطراف الصراع في اليمن ما تزال تتجاهل المعلم، وما يعيشه من بؤس وشقاء، والأمر الأكثر إيلاما أن تغض كذلك المنظمات الدولية المعنية بالتعليم الطرف عن هذه القضية، ولا تمنحها الاهتمام المناسب للشعارات التي ترفعها حول أهمية التعليم، وحماية الأجيال من الضياع في دروب الجهل والأمية.

وبحسب تقرير سابق صادر عن منظمة اليونيسف، فإن ثلثي المعلمين في اليمن (أكثر من 170 ألف معلم) لم يتلقوا رواتب منتظمة منذ أكثر من أربع سنوات بسبب الحرب التي اندلعت عام 2015م.

ووفقاً لتقرير المنظمة فإن تعطل التعليم نتيجة لتأثير الصراع على تعليم الأطفال في اليمن ترك المعلمون الذين لا يتقاضون رواتبهم التدريس لإيجاد طرق أخرى لإعالة أسرهم ما يعرض أربعة ملايين طفل إضافي لخطر انقطاع التعليم أو التسرب من الدراسة.

وبشكل مستمر ينفذ المعلمون والمعلمات وقفات احتجاجية، ويطالبون برواتبهم، فضلا عن دعوات نقابة المعلمين اليمنيين المتكررة للأمم المتحدة وكافة المنظمات المتصلة بالتعليم والمعلمين وحقوق الإنسان إلى ممارسة دورها الحقوقي والإنساني بالضغط على أطراف الصراع لصرف مرتبات المعلمين الموقوفة منذ ثمان سنوات.

وبرغم كل المناشدات والدعوات إلا أن قضية المعلم ما تزال تحت الانقاض، تبحث عن منقذ، في الوقت الذي ينشغل فيه الجميع بالجوانب العسكرية والسياسية، غير مدركين أن انهيار العملية التعليمية سوف يفرز واقعا كارثيا، ترتفع معه مخاطر الاستقطاب والتجنيد لجيل من النشء والشباب.

المعلمون يضلون طريقهم إلى المدراس

وفي ظل الواقع الذي انتجته الحرب- وكان للمعلم والطالب النصيب الأكبر من الضرر- لجأ الكثير من المعلمين إلى ترك قاعات التدريس، وذهبوا نحو أعمال أخرى، لكي يغطوا جزءا بسيط من تكاليف حياتهم اليومية، في ظل أرتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، فمنهم من عمل في المحال التجارية، وآخرون اتجهوا إلى أعمال البناء، وأعمال شاقة أخرى، والملمح الأكثر مأساوية أن بعض المعلمين انخرطوا في التجنيد العسكري والأمني، وباتوا بيادق بيد أطراف الصراع، تاركين خلفهم شهاداتهم ومكانتهم ورسالتهم الإنسانية السامية.

نقابة في عدن وأخرى في صنعاء

بعد خروج الحوثيين من الجنوب منتصف العام 2015م سيطرت القوات الجنوبية على الأرض، وفرضت واقعا جديدا تشكلت بموجبه عدد من النقابات الجنوبية، من ضمنها نقابة المعلمين والتربويين الجنوبيين، وتبنت النقابة هموم وتطلعات المعلمين في المحافظات الجنوبية، وطالبت الحكومة الشرعية التي تنقسم هي الأخرى مناصفة بين ممثلي الشمال والجنوب، غير أن تلك الجهود لم تتكلل بأي شيء لصالح المعلم.

الأستاذ عبد الله القميري وهورئيس نقابة المعلمين والتربويين الجنوبيين يقول" لقد عملت نقابة المعلمين والتربويين الجنوبيين ومنذ السنوات الماضية بالوقوف إلى جانب المعلمين من خلال مطالبة الحكومات المتعاقبة بالاهتمام بالمعلم والكادرالتربوي، باعتبارهم عماد المجتمع وآفاق تطوره المستقبلي كما أن المعلمين والتربويين هم صفوة المجتمع، إذ عقدت النقابة العديد من اللقاءات مع الحكومية  والوزارات المعنية لتلبية مطالب المعلمين ويتم التوقيع  بينهم على المحاضر والالتزام بصرف العلاوات المستحقة والتسوية المجمدة وجدولة بقية  المستحقات، ولكن للاسف لم تنفذ من ذلك شيئا، ونتيجة لعدم الانصياع من قبل الحكومة وتجاهلها للمطالب المشروعة حصلت بعض الوقفات الاحتجاجية ناهيك عن اصدار عدة بيانات من قبل النقابة تدعو للإضراب وقد أضربنا العام الماضي فصلا كاملا ولكن لاحياة لمن تنادي "

ويضيف القميري بقوله" وصل الأمر صدور بيان من اتحاد عمل الجنوب يدعو إلى التصعيد وفق الخطوات القانونية للضغط على الحكومة للاستجابة للمطالب المشروعة للمعلمين، ولا نستبعد  من أن  تنطلق قريبا  ثورة الجياع تلك الثورة  الجماهيرية العارمة، وعند ذلك ستخرج الأمور عن السيطرة لذلك نحمل الحكومة كل  ماسيحصل من تداعيات هذه المرحلة"

من جانبه يرثي الأستاذ جمال مسعود علي وهو رئيس الدائرة الإعلامية للنقابة العامة للمعلمين والتربويين الجنوبيين واقع المعلم ويقول" واقع المعلمين يومنا هذا لم يمر مثله منذ بدأنا العمل في مهنة التدريس قبل ثلاثين عاما  وهو واقع ومرحلة  لاتشبهها أي مرحلة على الإطلاق، يكاد يكون المعلم هذه الأيام أن يتسول والبعض منهم قد تسول فعلا ومرغما من أجل أن يسدد إيجار بيت أو يدفع حساب بقالة أو ديون تكاليف علاج أو يتقطع قلبه من أجل أن يطعم أولاده ويدفع لهم مصاريف الدراسة"

ويضيف" وضع المعلم اليوم من الفقر جعله يقبل بخدش ماء وجهه، ويشتغل بوظائف مجتمعية لكنها لا تليق بالمعلم كأن يقدم الطعام للزبائن في مطعم أو يخيط أحذية في الشارع أو لديه ميزان يستقيم الناس عليه يزنوا أنفسهم مقابل مادي أو حتى يبيع كتبه ومراجعه على الرصيف، وذلك انعكس على الكفاءة والقدرة النفسية وعلى الإبداع وتقديم الأفضل لديه في الحصة الدراسية، نتيجة الهم المعيشي الذي لا يحتمله جبل لو تعرض له لتصدع من الضغط النفسي"

معلمون لا يمتلكون أجرة المواصلات أو قيمة كبسولة علاج

ويروي مسعود قصة موجعة حصلت مع أحد المعلمين ويقول" أحدهم في حصة دراسية يرن تلفونه لتخبره زوجته بأن ابنتك الصغيرة سقطت من الدرج وأصيبت إصابة بالغة، خر مغشيا عليه داخل المدرسة، فلما أفاق كان يردد كيف أعمل من أين لي تكاليف علاج البنت، لا توجد في محفظتي قيمة أجرة السيارة إلى المستشفي، فبكى من القهر وأبكى زملائه وزميلاته الذين افترقوا له مبلغ من المال ليذهب إلى بيته وينقل ابنته إلى المستشفى أولا، ثم ينظرون في قضية تكاليف العلاج"

وعن جدهود النقابة يقول مسعود "لدينا نقابة بذلت جهدا كبيرا في توصيل رسالة المعلم إلى كل الجهات من المدرسة إلى السيد رئيس الجمهورية خاطبنا الجميع وتفاوضنا مع الوزير ورئيس الوزراء وقيادة المجلس الانتقالي الجنوبي وقيادة التحالف العربي وموظف مكتب الأمم المتحدة قمنا بكل ما علينا فعله، نفذنا إضراب متكرر وطويل في إحدى المرات وقفنا أمام ديوان وزارة التربية ووزارة المالية وقصر الرئاسة في المعاشيق ووقفنا احتجاجا أمام مقر الأمم المتحدة في عدن وسلمناهم رسالة المعلم المبعوث الأممي إلى اليمن"

ويختتم مسعود تصريحه بتطلع مشروع ويقول" نحن كمعلمين وكنقابة ممثلة لهم نتطلع إلى أن يعود وضع المعلم ومكانته وأهميته في المجتمع مثل السابق أيام كان المجتمع بكامله ينزل المعلم منزلة عالية فائقة الاحترام والتقدير والعرفان"

البعض بلا رواتب وآخرون يتقاضون 50 دولار

في السنوات السابقة لما اسمي بثورة التغيير السلمية كان للمعلم راتب كبير يلبي كل احتياجاته، ويضمن له حياة كريمة، تنعكس طبيعيا على أدائه ورسالته، بل كان يصنف راتبه ضمن أقوى الرواتب في المؤسسات المدنية، لكن ذلك التميز المستحق بدأ بالتدهور تباعا إلى أن صار ما صار عليه من تدهور انتهى بدفعه إلى رصيف البطالة.

محمد علي لملس وهو وكيل قطاع التعليم بوزارة التربية والتعليم يقول" ألقت الحرب المستعرة بظلالها على الوضع العام في البلاد، وكانت القطاعات الحيوية والخدمية في مرمى تأثيراتها، وفي مقدمتها قطاع التعليم، حيث تفاقمت الأمور إثر الإنقسام في إدارة العملية التربوية بين الحكومة الشرعية وسلطة الحوثيين الذين يحكمون سيطرتهم على المحافظات الأكبر كثافة سكانية، ونزوح الآلاف من المعلمين وعشرات الآلاف من الطلاب من مناطقهم إلى مناطق سيطرة القوات الحكومية الشرعية، لاسيما محافظتي عدن ومأرب اللتان تكتظان بالنازحين مما أدى لمضاعفة العبء عليهما"

ويؤكد لملس انصراف آلاف المعلمين للبحث عن مجالات عمل أخرى ويقول" انصرف آلاف المعلمين إلى البحث عن مصادر للعيش إثر انقطاع الراتب في مناطق سيطرة الحوثيين وعدم كفاية الراتب الشهري للمعلمين في المناطق المحررة مقارنة بالوضع الاقتصادي وغلاء المعيشة"

وعن راتب المعلمين يفيد لملس أن راتب المعلم لا يتجاوز خمسين دولارا، ويقول " رواتب المعلمين ضئيلة جدا ولا تكفي لسد أبسط المتطلبات الأساسية، حيث يتراوح راتب المعلم  تقريبا مابين ( ٤٠٫٠٠٠) ريال إلى (٨٠,٠٠٠) ريال يمني يعتمد ذلك على المؤهل الدراسي وسنوات الخدمة بحسب الدرجة والمجموعة والمستوى الوظيفي وقد يزيد قليلا أو ينقص قليلا عن هذا المستوى"

ويضيف لملس" ولو نظرنا إليه فإنه لايلبي أبسط الاحتياجات الأساسية في ظل التدهور الاقتصادي وغلاء المعيشة وارتفاع أسعار السلع والمواد الغذائية، ناهيك عن إيجارات المنازل المرتفعة لمن هم مستأجرين ومتطلبات الحياة الأخرى، ولذا تجد المعلم في وضع لا يحسد عليه ويكابد عناء وأعباء الحياة لتوفير لقمة العيش الأمر الذي يتطلب حتما من الحكومة والجهات ذات العلاقة النظر إلى ذلك بعين الاعتبار والتدخل العاجل لما من شأنه رفع أجور مرتبات المعلمين بما يتناسب وغلاء المعيشة على مختلف الاصعدة"

جهود تربوية دون مستوى الطموح

دائما ما تشتكي المكاتب التنفيذية في المحافظات من شحة الامكانيات في ظل موازنات لا تكاد تذكر، ودعم خارجي يضل طريقه إلى المستحقين، وسط غياب الخطط والاستراتيجيات، المبنية على أولويات عاجلة وملحة.

وحول المعالجات التي قامت بها الوزارة يقول لملس" قمنا باستقبال المعلمين النازحين وترتيب أوضاعهم وصرف مرتبات جزء كبير منهم وتبقى عدد منهم لم يتم صرف رواتبهم من الدفع الأخيرة ونأمل من الجهات ذات العلاقة معالجة ذلك وصرف مرتباتهم إسوة بزملائهم، كذلك ترميم وإعادة تأهيل عدد من المدارس في بعض مديريات المحافظات المحررة، واستقبال وترتيب أوضاع الطلاب النازحين من المناطق التي تحت سيطرة الحوثيين إلى المناطق المحررة كل بحسب المرحلة والسلم الدراسي بموجب الوثائق المدرسية، وتوفير فصول مؤقتة في بعض مدارس مديريات المحافظات المحررة، وطباعة الكتاب المدرسي للصفوف الأولية من مرحلة التعليم الأساسي في ظل الامكانيات المتاحة"

ويضيف لملس" قمنا بسد العجز القائم في المعلمين في أربع مديريات موزعة على ثلاث محافظات محررة من خلال صرف حافز شهري للمعلمين المتطوعين في تلك المدارس مبلغ  (٥٠) دولار  شهريا لفترة سبعة أشهر للعام الدراسي الواحد وعلى مدارعامين دراسيين فقط بتمويل من الشراكة العالمية ومنظمة اليونيسف، ونأمل استمرار البرنامج للأعوام القادمة وأن يشمل التدخل في كافة مدارس مديريات المحافظات المحررة، وحتى يتم التعافي وفتح باب التوظيفات الجديدة، وكذلك التواصل مع المنظمات الدولية مثل البنك الدولي والشراكة العالمية ورعاية الاطفال وذلك برفع لهم الاحتياجات الضرورية والأساسية للتعليم مثل إقامة الكثير من الدورات والورش للمعلمين والطواقم الإدارية، وذلك لبناء القدرات وتنمية المهارات والإدارات المدرسية والدعم النفسي وغيرها من الامور ذات الصله"

وعن أهم المشاكل التي تواجه الوزارة في جانب المعلم يقول لملس" العجز القائم في الكادر التربوي والتعليمي جراء توقف التوظيف منذ عام 2013م وبلوغ عدد كبير من المعلمين أحد الاجلين، ناهيك عن حالات الوفاة والحالات المرضية النفسية، وهذه تعد من أهم المشاكل والصعوبات والمعوقات والتحديات التي تواجه القطاع التربوي والتعليمي، مضاف إليها ضآلة أجور المعلمين الشهرية التي يتقاضونها مقارنة بالوضع الاقتصادي وغلاء المعيشة"

ومما سبق يتضح المشهد المأساوي للمعلم الذي لم يسلم اليوم من الضرب، كما حصل مؤخرا في عدن مع معلم تعرض للإعتداء من قبل تلاميذه، والأكثر إيلاما أن تمت معالجة تلك القضية بصلح وفق الأعراف القبلية، وهذا يرسم صورة أكثر سوداوية عن المستقبل الذي يبدو هو الآخر بلا ملامح.