لماذا تفشل الثورات الجديدة ؟
الفانوس- صالح با مقشيم
ربما يحتاج مثل هذا السؤال إلى مجلدات من النوع البدين لمحاولة الإجابة عنه ثم تفسير تلك الاجابة بشكل تفصيلي ؛ لكننا نقصد بالثورات هي تلك الانتفاضات الشعبية الواسعة النطاق التي اندلعت مطلع الألفية الجديدة في الوطن العربي وفي طليعتها الحركة الاحتجاجية في عدن منذ العام 2007 ونالت شرف الأسبقية في اللجؤ إلى السبيل السلمي الحضاري في ايصال رسالتها لكن السؤال بقي مكتوما في حناجرنا : لماذا تسوء الأوضاع..لماذا يكون الوضع بعد أي ثورة اسوأ مما كان عليه قبلها ؟ ولماذا تفضي في نهاية المطاف إلى لاشيء ويبقى القهر الاجتماعي والقمع والأنظمة البوليسية ومافيا الفساد هي المتحكم.
ذلك المنتوج البائس والمخيب للأمل يجعل أي تحرك شعبي محفوفا بالمخاطر وتصطدم أحلام التغيير بتلك الأسئلة الثقيلة حول ماهية المستقبل في مجتمعات هيمنت الثقافة الاستبدادية على مفاصل الحياة فيها. افتقرت الثورات العربية إلى التطابق بين محركاتها الأساسية المادية على الأرض والتي تمظهرت في ذاك الخروج الشعبي العفوي إلى الشارع وأدواتها القيادية من جهة وبين أزمة الرؤى القادرة على خلق سياسات تستطيع تفتيت الكتل السلطوية الصلبة بكل قسوتها وشراستها.
وعلى عكس ثورات الستينات و السبعينات التي أنجزت أشواطا مهمة في مسيرة التحول، وخلقت التغيير بشكل ملموس واستطاعت تغيير البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية في زمن قياسي فإن الثورات العربية افتقرت بشكل مفزع إلى الترسانة الأيديولوجية الراديكالية الجذرية اللصيقة بمفهوم الثورة بما هي عليه كحدث استثنائي مؤقت وإلغائي تماما يقصي الآخر ويفرض مشروعه الخاص كبديل.
كانت ميوعة المفاهيم هي أساس ميوعة الموقف الذي أنتج كل هذا البياض واللا معنى والضبابية رغم أن الأمل كان يهيمن على النفوس لكن لا أحد طرح تساؤلات تخص اليوم التالي للثورة ..ماذا بعد ؟
غياب الراديكالية أدى إلى عدم استقرار الهدف المركزي ووقوفنا جميعا على أرض رخوة غير متماسكة وغير ثابتة .
كان حضور ( الرواية الأمريكية) كثيفا وحاجزا أمام إنجاز عملية التحول المطلوب ؛ قالت تلك الرواية أن الأيديولوجيا قد ماتت وانتهت !! وصدق كثير من الناس ..أنه اسلوب رشيق للتهرب من طرح أفكار واضحة للمستقبل والتهرب من القضايا الإشكالية عن طبيعة الثورة في مجتمعات لم تجرؤ على تشريح بناها ومصالحها والهروب إلى عناوين فائضة مثل الدولة المدنية وفي الحالة الجنوبية : عن الاستقلال الذي سبجعلنا أكثر سعادة ويجعل الشمال أكثر حزنا عقابا له على إيذائنا.
اتخذت الثورات الكلاسيكية موقفا واضحا سواء كان سليما أو لا إزاء النظرة إلى الإمبريالية والاستعمار والانتصار للطبقات الفقيرة والمعدمة والأفكار الاقتصادية الحادة تجاه الخصخصة واقتصاد السوق بينما كانت ثورات الجيل الجديد تحمل عموميات وأفكار خفيفة وسريعة مستلهمة عن الرواية الأمريكية وثقافة العولمة، وبالتالي فهي لا تنتمي مبدئيا وفكريا إلى أرض وطنية حيث يفكر الفقير بالدواء والخبز أكثر من ترويج ثقافة الحقوق المدنية رغم أننا لا ننكر أهميتها وجوهريتها.
لقد طالب الثوار بإسقاط النظام لكن خيالهم لم يسعفهم إلى تصور البدائل وتنازلت حركة الاحتجاج في الجنوب مثلا بمرور الوقت عن أكثرية المطالب المتصلة بالرغبة في بناء هيكل جديد مختلف تماما يحترم حقوق الإنسان والحق في المشاركة الشعبية ويعزز قيم الشفافية واحترام المؤسسات وافرطت في الماضوية واعتناق الغيبيات والشوفينية الوقحة ومن أجل تعويض الأحلام التي تتسرب من أيدينا تضخمت حالة مهووسة تتحدث عن الاستقلال فقط مهما كان شكل المستقبل ونتائجه.
في الحقيقة حدث تنصل رهيب ورشيق وسريع من قبل الثوار حتى لا يغضب منهم أحد وافضت الأمور إلى طرح تساؤلات جادة هل كانت ثورات فعلا ؟ بما في ذلك ما حدث في الجنوب حيث لا يمكن قياس فاتورة الدم بالمردود السياسي لأن لكل منهما معيار مختلف.
يحتاج المناخ الوطني و الاجتماعي الراهن إلى إعادة الاعتبار إلى فكرة الثورة وأن يعاد إلى قاموس الحراك الاجتماعي المطالب التي لا يتحدث عنها أحد فقد أصبح أي حراك ثقافي أو سياسي أكثر سيولة واقصر عمرا ربما لارتهانه إلى ثقافة السوق حيث تكون السلعة محكومة بمعايير معينة فتظهر إلى المجال العام مشاريع وشخوص تقدم ما عندها بصيغة الإعلان التجاري ثم تختفي وينساها الناس الذين يتجاوبون مع فكرة السوق وتجليانه.
العجيب أن الرواية الأمريكية لا تتعرض منتوجاتها للنقد ولا توصف بأنها أيديولوجيا مماثلة ويقتصر الأمر على ما تقدمه قوى اليسار والقوميون والإسلاميون فقط وتم اقناعنا أنه لم يعد هناك صراع طبقي بين الغني والفقير، ولم تعد فكرة السيادة الوطنية ذات قيمة في زمن العولمة ولم يعد من حقنا رسم السياسات الاقتصادية إلا عبر البنك الدولي وصندوق النقد.
من الواضح أن زمن سقوط الرواية الأمريكية هو نفسه زمن الحراك الخلاق الذي يستفيد من الأخطاء ولا يكررها ولا يتعامل مع التغيير على أنه بضاعة يتم شراؤها إلكترونيا بل شروط حقيقية وقراءة معمقة الأولويات ذلك التغيير وفهم تداعياته من منطلق المسؤولية والوطنية والحرص على المصالح العامة.